من جلال اسم الله الرفيق أنه يهيئ عباده لما يريد بهم من عظيم أقداره، فتراه يسوق من الأحداث العجيبة ما يكون توطئة لهذه الأقدار قبلنزولها، إذ لو هجمت عليهم فجأة دون مؤشرات ومبشرات لكان فيها اختلال أحوالهم، أو ذهاب عقولهم، أو هلاك نفوسهم، ولكنه لكمال علمهبضعف عباده وكمال رحمته ولطفه يسوق المقادير شيئًا فشيئًا، وهو القادر -لو شاء- أن يجعل خلقه وأمره يحدث في لحظة، ولكن حكمته لاتبلغها الأفهام ولا تحيط بها الأوهام، ولك أن تتخيل أن نبينا ﷺ -والذي كان من أكمل الناس عقلًا وأقواهم نفسًا- قد هيأه الله للنبوة شيئًافشيئًا فلم تهجم عليه مرة واحدة، وإنما ساق بين يديها من الأقدار ما يكون توطئة لها، فقد مكث قبل نزول الوحي ستة أشهر يرى الرؤيا فتقعمثل فلق الصبح، وكان إذا خرج لشعاب مكة وبطون أوديتها يسمع تسليم الشجر والحجر: (السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا رسولالله)، فيلتفت عن يمينه وشماله فلا يرى شيئًا، فمكث يسمع تسليمها عليه بالرسالة ما شاء الله أن يمكث، حتى جاءه جبريل -عليه السلام- بماجاءه من كرامة الله وهو في غار حراء، فكان لهذا الحدث الرهيب أثر بليغ عليه ﷺ؛ إذ رجع وفؤاده يرجف من هول ما رأى وسمع، حتى دخلعلى خديجة وهو يقول: (إني خشيت على نفسي)، أي خاف على نفسه الهلاك من شدة الرعب على ما استظهره ابن حجر في تفسير هذهالجملة، فما ظنك بحاله لو هجمت عليه النبوة فجأة من دون مقدمات وممهدات؟!
وكذلك ما مهّده لمريم الصدّيقة في الرزق الذي يأتيها بلا سعي ولا سبب، حتى ذكر بعضهم أنها تُرزق بالطعام في غير أوانه زيادة فيالعجب، فكانت فاكهة الصيف تأتيها في الشتاء، وفاكهة الشتاء تأتيها في الصيف إمعانًا في خرق العادات، وكل ذلك مستمر متكرر كمايُفهم من لفظ (كلما) في الآية الكريمة: (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا)، ولعل من حكمة ذلك ترسيخ معاني القدرة الإلهية قبلحملها بعيسى -عليه السلام-، فكان خرق العادة في رزقها تمهيدًا لخرق العادة في حملها، وزيادةً في يقينها وإيمانها وصبرها، وترقيها مندرجة (علم اليقين) إلى درجة (عين اليقين) ثم إلى (حق اليقين).
ومن أجلّ صور الرفق الإلهي ما يكون تمهيدًا وتوطئة لعباداتٍ عظيمة يريدها الله لعبده، فيسوق بين يديها من الأقدار والأحداث العجيبة مايكون صنعًا وتربيةً لهذا العبد، ولولا ذلك الصنع الذي تقدمها ماكان للعبد أن يحمل أعباءها، ولكن الله رفيق بعباده ولطيف بهم، يفتح لهم منأبواب الخير أبوبًا صغيرة تنتهي بهم إلى أبوابه الكبيرة، وقد يسوقهم مع تلك الأبواب الممهِدة على كرهٍ منهم، فتجد الواحد منهم يكابد مراحلهامرحلةً مرحلةً، يتبصّر الحكمةَ من ورائها فلا يبصرها، ولربما حاول أن يعود أدراجه فيُحال بينه وبين ما أراده، فيختار أن يمضي في طريقٍ لايعلم نهايته، وما علم أن الخير مخبوء في عاقبته، وأن هذا الطريق الذي يقطع فيه أيامه وأعوامه ما هو إلا صنعٌ يمهّده لباب من الخير الممتد،والعطاء الذي لا ينفد، وأنّى للعبد أن يدرك حجم العطاء حتى ولو عرض عليه في أوّل أمره، لأن عقله عاجز عن استيعاب خفايا الحكمة وقاصرٌعن إدراك خبايا الألطاف، فكان من رحمة الله به أن ساقه إلى هذا الخير على كرهٍ منه، لينال هذه الكرامة في عاقبة أمره، وصارت حاله كحالمن يُقاد إلى الجنة رغمًا عنه، و (عجب ربك من أناس يقادون إلى الجنة بالسلاسل).
ومن مشاهد رحمة الله ورفقه عند البلاء ما يهيء لعباده من أسباب الصبر والرضا قبل نزول البلاء وبعد نزوله، وتختلف هذه الأسباب تبعًالاختلاف البلاء وشدته، وكلما كان البلاء عظيمًا كانت أسباب الثبات التي يسوقها الله لعباده أكثر وأعظم، فهذا عثمان رضي الله عنه يبشرهالنبي ﷺ بالجنة على بلوى تصيبه، وكانت هذه البشارة والتثبيت قبل نزول البلاء بنحوٍ من ثلاثين سنة، ولا زال النبي ﷺ يتعاهده بالتثبيتحتى في مرض موته وقبل أن يفارق الدنيا، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده أن النبي ﷺ أرسل إلى عثمان، فجاء، فخلا به، فجعل رسولالله ﷺ يكلمه ووجه عثمان يتغير، فكان من آخر ما كلمه أن ضرب على منكبه وقال: (يا عثمان: إن الله عز وجل عسى أن يلبسك قميصًا، فإنأرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني) كررها عليه ثلاثًا زيادةً في التأكيد وإمعانًا في التثبيت.
ولا يزال الرفيق -تبارك وتعالى- يتولى ذا النورين بالعناية والرفق والتأييد حتى بعد نزول الفتنة، فقد ورد عنه أنه قال قبل موته: (إني رأيترسول الله ﷺ البارحة في المنام، ورأيت أبا بكر وعمر، وإنهم قالوا لي: اصبر؛ فإنك تفطر عندنا القابلة، ثم دعا بمصحف، فنشره بين يديه،فقتل وهو بين يديه)، ومتى ما رأى العبد أن الله يبعث في طريقه أمورًا تعينه على الصبر أيام بلائه، فليعلم أنه قد أراد أن يُبلّغه، ولو أراد أنيقطعه؛ ما تابع عليه المَدد!
ومن رأفة الله ورفقه بالمكروبين، أنه لا يفجؤهم بالفرج وهم في عمق البلاء، بل يسوق بين يدي رحمته ما يُشعر بحصولها أو قرب وصولها (ولمافصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف)، وذلك حتى لا يهجم عليهم الفرح وهم في شدة الحزن فيكون في ذلك ذهاب عقولهم أو هلاكنفوسهم.
وكلما كان البلاء عظيمًا كانت البشارات بالفرج أعظم وأكثر، وصور هذه البشارات لا ينتظمها الوصف ولا يحيط بها العد، فقد تكون رؤياصالحة، وقد جاء في الحديث: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات؛ الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له)، وقد تكون آية يقرؤها العبد أو يسمعهافتستقر في قلبه، أو كلمة يلقيها الله على لسان عبد من عباده فتجري من نفس المبتلى جريان الماء في العود فتورق بها نفسه وتخضرّ بعدطول يباسها، أو مشهدًا يراه فيعتبر به، أو رَوْحًا يجده في نفسه من دون سبب، والله يتابع على عباده نَفَحَات الفرج كلما أجدبت أرواحهموقلّت موارد صبرهم، فتكون كالغيث الذي يحيي آمالهم ويملأ حياض الصبر في أرواحهم، وهي رياح البشرى التي يسوقها الله بين يديرحمته، فمن أحسها فليستبشر، فالله أكرم من أن يُذيق عبدَه نَفْحَةَ الفرج ثم لا يبلُّغه إياه!
غير أن هاهنا ملحظًا لطيفًا أختم به، وهو أن هذه البشارات قد تكون قبل مجيء الفرج بزمن بعيد، وذلك حتى لا يهلك العبد غمًّا، أو يموتأسفًا من شدة ما يلقاه من البلاء، فتأتي هذه البشارات لكي تنتشله كلما أشرف على الهلاك أو انقطعت به السُّبل، ولأجل أن يحفظ الله جذوةحسن الظن به في نفس عبده المؤمن، لأن سوء الظن بالله واليأس من رحمته عذابٌ لا يُصب على قلب مؤمن أبدًا (إنه لا ييأس من روح الله إلاالقوم الكافرون).