بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن من أعظم الأخلاق التي حث عليها الإسلام، وأمر بها: خلق الوفاء بالعهد، قال سبحانه: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 34]، وقال سبحانه: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: 91].

الوفاء بالعهد من شيم الأوفياء، ومن خصال الأصفياء، يُحمد عليه صاحبه، ويُذم كل من تخلى عنه بالفطرة البشرية؛ فالإنسان بفطرته يبغض نقض المواثيق، وإخلاف المواعيد، والمسلم أولى الناس بالوفاء؛ لأن ديننا يأمرنا بالوفاء بالعهد.

والعهود نوعان:

فأعظمها وأولاها بالوفاءالوفاء بالعهد مع الله تعالى؛ قال سبحانه: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [البقرة: 40]، قال أبو العالية رحمه الله: “عهده إلى عباده: دين الإسلام وأن يتبعوه، ﴿ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ [البقرة: 40]؛ قال ابن عباس: “أي: أرضَ عنكم وأدخلكم الجنة، وقال سبحانه: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس: 60].

ومن ذلكما يوجبه الإنسان على نفسه كما لو نذر نذرًا، فيجب عليه الوفاء بالنذر، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه))؛ رواه البخاري في صحيحه.

النوع الثاني من العهود: هي ما تقع بين الناس، كعقود البيع والشراء والنكاح ونحوها، فهذه يجب الوفاء بها، قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1].

ومن أوثق العقود بين الناس عقد الزوجية الذي سماه الله تعالى ميثاقًا غليظًا؛ حيث قال سبحانه: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء: 20، 21]، فهو ميثاق غليظ يجب الالتزام به.

الوفاء بالوعد من صفات الأنبياء عليهم السلام:

الوفاء بالعهد من أخلاق الأنبياء الكرام، قال سبحانه عن خليله إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37]؛ قال ابن كثير رحمه الله: “قال ابن عباس رضي الله عنه: وفَّى لله بالبلاغ، وقال قتادة: وفَّى طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه، وهذا القول هو اختيار ابن جرير رحمه الله“.

وقال سبحانه عن إسماعيل عليه السلام: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم: 54].

ونبينا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم الذي بُعث ليتمم مكارم الأخلاق، وكان مثلًا أعلى في كل خلق حسن، وفي الوفاء بالعهد؛ فقد كان يفي بالوعد مع المسلم والكافر، والبر والفاجر، لم يخلف وعده حتى مع اليهود، وحتى كفار قريش الذين آذوه وطاردوه، وصدوا عن دين الله وحاربوا دين الله، ومما يدل على وفائه معهم حديث حذيفة بن اليمان، قال: “ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر، فقال: ((انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم))؛ رواه مسلم في صحيحه.

ولما سأل هرقل أبا سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: “وهل يغدر؟، قال أبوسفيان: “لا، قال: “وكذلك الأنبياء لا يغدرون“.

الوفاء بالعهد خلق الصحابة ومن تبعهم بإحسان:

وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عاهدوا الله تعالى، ووفوا وصدقوا؛ فأثنى عليهم بقوله تعالى:
﴿
 مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 23، 24]، وإن كانت الآية نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه، إلا أنها جاءت بصيغة الجمع، فشمِلت كلَّ الصادقين من أصحابه صلى الله عليه وسلم.

الوفاء بالعهود من صفات أولي الألباب الذين امتدحم الله بقوله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ [الرعد: 19، 20]؛ قال الشوكاني رحمه الله في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ [الرعد: 20]: “أي: بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم، وفيما بينهم وبين العباد“.

ولما ذكر ربنا صفات المؤمنين أهل الفلاح، ذكر منها الوفاء بالعهد فقال سبحانه:
﴿
 قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المؤمنون: 1] إلى قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8].

التحذير من إخلاف الوعد:
وكما أن فضل الوفاء بالعهد عظيم، فإن إخلاف الوعد خلق قبيح، ليس من خلق المسلم، وإخلاف الوعد مع الناس قبيح، وإخلافه مع الله تعالى أشد قبحًا، فقد يُعاقَب صاحبه بأن يبتليه الله بأن يعاقبه بالنفاق في قلبه، كما قال سبحانه
: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 75 – 77]، فمن الناس من يعاهد الله على ترك معصية أو فعل طاعة، كأن يقول: أعاهدك يا رب على كذا أو لله عهد عليَّ أن أفعل كذا، ثم يخلف وعده مع الله تعالى ولا يبالي.

وتساهل كثير من الناس في هذا الزمان بالوعود فأخلفوها، وتهاونوا بها حتى فُقدت الثقة بين الناس إلا من رحم الله، تجد من يحلف لك الأيمان، ويشهد الله على كلامه، ويعد المواعيد ثم يخلفها بكل برود ولا يبالي؛ فضاعت الحقوق وامتلأت المحاكم بالقضايا، وحصلت النزاعات، وتخاصم الإخوة والأحباب بسبب إخلاف الوعود.

إخلاف الوعد من علامات النفاق:
فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن إخلاف الوعد صفة من صفات المنافقين، فقال صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))؛ رواه البخاري
.

فكيف يرضى المؤمن أن يتصف بصفات أهل النفاق؟ وما أكثر إخلاف الوعد فيما يتداين الناس! فإذا كنت أعاذك الله تستدين من الناس إلى أجل مسمى، فإذا جاء موعد السداد ماطلتهم وأخرتهم وأنت مقتدر ميسور الحال، أو أنكرت أن لهم عليك حقًّا – فاعلم أن فيك خصلة من خصال المنافقين، فتُبْ إلى الله، ولا يغرنَّك المال؛ فتظلم مسلمًا بسببه، واعلم أنك آثم في إخلاف الوعد، حتى وإن كنت تظن أنه ليس بحاجة إلى ماله الذي عندك، فإن ذلك لا يبرر لك إخلاف وعدك وعهدك له.

ومن الناس من يستأجر عاملًا، ولا يعطيه حقه، أو يماطله، أو ينقصه أجرته أو راتبه، فهذا غدر وظلم عظيم.

فاحذر يا عبدالله أن تظلم أحدًا في حقه بعد أن عاهدته؛ فسيكون الله خصمك يوم القيامة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطِ أجره))؛ رواه البخاري في صحيحه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.